أنواع الأحـاديث ودرجاتها
علمت مما تقدم أن الحديث يحكم على درجته بأحوال رواته ـ وأحوال الرواة لا تحصى ، وأحوال المتون كذلك , ومن هنا قال السيوطي بعد أن ذكر هو والنووي خمسة وستين نوعا للأحاديث: (ليس هذا آخر الممكن في ذلك فإنه قابل للتنويع إلى مالا يحصى).
ومع ذلك فهذه الأنواع التي لا تحصى لا تخرج عن ثلاثة أقسام: الصحيح ، والحسن ، والضعيف , لأنه إن اشتمل من أوصاف القبول على أعلاها فالصحيح , أو على أدناها فالحسن , أو لم يشتمل على شيء منها فالضعيف. ويتصل بكل قسم من هذه الأقسام بحوث نجملها فيما يلي:-
الحديث الصحيح:
هو ما اتصل سنده ، بنقل العدل الضابط عن مثله ، مع السلامة من الشذوذ والعلل.. وهذا هو الصحيح لذاته.
وهناك الصحيح لغيره وهو: ما لم تتوفر فيه هذه الشروط بأكمل معانيها ، ولكنه اكتسب وصف الصحة لسبب آخر.. كالرواية من غير وجه ، أو تلقي العلماء له بالقبول ، أو الانطباق التام على الآيات المحكمة ، أو بعض أصول الشريعة ، فإن هذه المعاني وأشباهها ترفعه إلى درجة الصحة.
مراتب الصحيح:
إن رتب الصحيح ودرجاته تتفاوت في القوة بحسب تفاوت الأوصاف المتقدمة. فما يكون رواته في الدرجة العليا من العدالة
والضبط وسائر الصفات التي توجب الترجيح كان أصح مما دونه.
ومن المرتبة العليا في ذلك ما أطلق عليه بعض أئمة الفن أنه أصح الأسانيد:
كالزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه , وكمحمد بن سيرين عن عبيدة بن عمر السلماني عن علي.
وكإبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود , وكمالك عن نافع عن ابن عمر.
قال النووي رحمه الله : (والصحيح أقسام:
ـ وأعلاها: ما اتفق عليه البخاري ومسلم
ـ ثم ما انفرد به البخاري
ـ ثم ما انفرد به مسلم
ـ ثم ما كان على شرطهما وإن لم يخرجاه
ـ ثم على شرط البخاري
ـ ثم على شرط مسلم
ـ ثم ما صححه غيرهما من الأئمة.
.. فهذه سبعة أقسام).
ولم تستوعب الأحاديث الصحيحة في مؤلف واحد ، وإن كانت الأصول الخمسة وهى : (صحيح البخاري ، وصحيح مسلم ، وسنن أبي داود ، والترمذي ، والنسائي) ، لم يفتها من الصحيح إلا اليسير. كذا قال النووي.
وأول مصنف في الصحيح : موطأ الإمام مالك , وتلاه: صحيح البخاري.
وإذا قيل: أصح شيء في هذا الباب ، فلا يلزم من هذه العبارة صحة الحديث , فإنهم يقولون: هذا أصح ما جاء في هذا الباب
وإن كان ضعيفا, ومرادهم: أرجحه أو أقله ضعفا.
الحديث الحسن:
قال الشيخ تقي الدين بن تيمية:
(أول من عرف أنه قسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف أبو عيسى الترمذى , ولم تعرف هذه التسمية عن أحد قبله. وقد بين أبو عيسى مراده بذلك: فذكر أن الحسن مما تعددت طرقه. ولم يكن فيهم متهم بالكذب ، ولم يكن شاذا ، وهو دون الصحيح الذي عرف عدالة ناقليه وضبطهم).
وأما من قبل الترمذي من العلماء ، فما عرف عنهم هذا التقسيم الثلاثي ، لكن كانوا يقسمونه إلى : صحيح ، وضعيف. والضعيف كان عندهم نوعان:
ـ ضعيف ضعفا لا يمتنع العمل به , وهو يشبه الحسن في اصطلاح الترمذي.
ـ وضعيف ضعفا يوجب تركه.. وهو الواهي.
أقسام الحسن:-
والحسن قسمان :
1 - حسن لذاته: وهو ما اشتهر رواته بالصدق ولم يصلوا في الحفظ رتبة رجال الصحيح.. وهذا تعريف ابن الصلاح.
وقال الطيبي: (الحسن: مسند من قرب من درجة الثقة ، أو مرسل ثقة ، وروي كلاهما من غير وجه ، وسلم من شذوذ وعلة) , وقد تقدم تعريف الترمذي.
ومن ألطف تعاريفه : (ما اتصل إسناده بنقل عدل قل ضبطه عن الصحيح غير شاذ ولا معلل).
وخلاصتها جميعا: أنه أقل من الصحيح ، وفوق الضعيف.
2 - حسن لغيره : وعرفه ابن الصلاح بما كان في إسناده مستور لم تتحقق أهليته ، غير مغفل ، ولا كثير الخطإ في روايته ، ولا متهم يتعمد الكذب فيها ، ولا ينسب إلى مفسق آخر ، واعتضد بمتابع أو شاهد.. فأصله ضعيف ، وإنما طرأ عليه الحسن بالعاضد الذي عضده ، فاحتمل لوجود العاضد ، ولولاه لاستمرت صفة الضعف فيه ، ولاستمر على عدم الاحتجاج به.
مراتب الحسن:
وللحسن رتب كالصحيح :
ـ فأعلاها: ما قبل لصحته .. كبهز بن حكيم عن أبيه عن جده , وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده , ومحمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر عن جابر . وأمثال ذلك , وهو أدنى مراتب الصحيح.
ـ ثم بعد ذلك ما اختلف في تحسينه وضعفه , كحديث الحارث بن عبد الله , وعاصم بن ضمرة , وحجاج بن أرطأة , ونحوهم . قاله الذهبي .
ـ والحسن لذاته المشهور رواته بالعدالة والصدق اشتهارا دون اشتهار رجال الصحيح ، إذا روي من وجه آخر ، ترقى من الحسن إلى الصحيح , وهذا هو الصحيح لغيره.
ومثاله : حديث الترمذي من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" قال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة).
فإن محمدا وإن اشتهر بالصدق ، والصيانة ، ووثقه بعضهم لذلك ، لم يكن متقنا لسوء حفظه.. فحديثه حسن لذاته.. وبمتابعة محمد عليه في شيخ شيخه وهو أبو هريرة يرتقي إلى الصحة لغيره ، فقد رواه جماعة غير أبي سلمة عن أبي هريرة.. والمتابعة قد يراد بها متابعة الشيخ , وقد يراد بها متابعة شيخ الشيخ.
والحديث رواه الشيخان من طريق الأعرج عن أبي هريرة فهو: صحيح لذاته من هذا الطريق , صحيح لغيره من طريق محمد بن عمرو.
الاحتجاج بالحسن:
وجمهور المحدثين ، وعامة الفقهاء على أن الحسن كالصحيح في الاحتجاج به ، وإن كان دونه في القوة , ولهذا أدرجه طائفة في أنواع الصحيح ، كالحاكم وابن حبان وابن خزيمة.
وقال السخاوي: (منهم من يدرج الحسن في الصحيح لاشتراكهما في الاحتجاج ، بل نقل ابن تيمية إجماعهم عليه إلا الترمذي خاصة).
وقال الخطابي: (على الحسن مدار أكثر الحديث ، لأن غالب الأحاديث لا تبلغ رتبة الصحيح ، وعمل به عامة الفقهاء ، وقبله اكثر العلماء..) قال: (وشدد بعض أهل الحديث ، فرد بكل علة قادحة كانت أم لا).
كما روى عن أبي حاتم أنه قال: (سألت أبى عن حديث ، فقال : إسناده حسن, فقلت :يحتج به؟ فقال: لا).
ـ وزيادة راوي الصحيح والحسن مقبولة, إذ هي في حكم الحديث المستقل ، وهذا إن لم تناف رواية من لم ترد ، فإن نافتها ، ولزم من قبولها رد الأخرى ، احتيج للترجيح , فإن كان لأحدهما مرجح فالأخرى شاذة.
قال الحافظ ابن حجر في النخبة وشرحها: (وزيادة راويهما : ـ أي الصحيح والحسن ـ مقبولة ، ما لم تقع منافية لرواية من هو أوثق ممن لم يذكر تلك الزيادة ، لأنه إما أن تكون لا تنافي بينها وبين رواية من لم يذكرها ، فهذه تقبل مطلقا ، لأنها في حكم الحديث المستقل الذي ينفرد به الثقة ، ولا يرويه عن شيخه غيره... وإما أن تكون منافية بحيث يلزمهم من قبولها رد الرواية الأخرى , فهذه التي يقع الترجيح بينها وبين معارضها ، فيقبل الراجح ، ويرد المرجوح).
ـ واشتهر عن جمع من العلماء القول بقبول الزيادة مطلقا من غير تفصيل , ولا يتأتى ذلك عن طريق المحدثين الذين يشترطون في الصحيح ألا يكون شاذا . ثم يفسرون الشذوذ بمخالفة الثقة من هو أوثق منه , والعجب ممن أغفل منهم ذلك مع اعترافه باشتراط انتفاء الشذوذ في حد الحديث الصحيح وكذا الحسن .
ـ والنقول عن أئمة الحديث المتقدمين ، كعبد الرحمن بن مهدي ، ويحيى القطان ، وأحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، وعلى بن المديني ، والبخاري ، وأبي زرعة وأبي حاتم ، والنسائي ، والدارقطني ، وغيرهم اعتبار الترجيح فيما يتعلق بالزيادة وغيرها , ولا يعرف عن أحد منهم إطلاق قبول الزيادة....
ـ ويصف الترمذي بعض الأحاديث بأنه "حسن صحيح " , وروى بعض المحدثين في هذا التعبير ما يستوقف النظر , لأن وصف الحسن قاصر عن الصحة.
وقد أجاب عن ذلك الحافظ ابن حجر بقولة : (إن تردد أئمة الحديث في حال ناقليه اقتضى للمجتهد ألا يصفه بأحد الوصفين. فيقال فيه : حسن وصفه عند قوم.. وصحيح باعتبار وصفه عند قوم).
وغاية ما فيه أنه حذف منه حرف التردد ، لأن حقه أن يقول: حسن أو صحيح.
وعليه , فما قيل فيه: حسن صحيح ، دون ما قيل فيه صحيح , لأن الجزم أقوى من التردد , وهذا حيث التفرد , فإن لم يحصل تفرد ، فإطلاق الوصفين على الحديث يكون باعتبار إسنادين: أحدهما: صحيح فقط ، والآخر حسن.
وعلى هذا ، فما قيل فيه: حسن صحيح فوق ما قيل فيه صحيح فقط إذا كان فردا ، لأن كثرة الطرق تقوي.
ألقاب تشمل الصحيح والحسن:
الجيد ، والقوى ، والصالح ، والمعروف ، والمحفظ ، والمجود ، والثابت ، والمقبول ـ كلها ألفاظ مستعملة عند أهل الحديث في الخبر المقبول ، صحيحا كان أو حسنا ، أو ضعيفا يصلح للاعتبار.
[center]