قطعت دراسة الشخصية مراحل كبرى في علاقتها بتطور الرواية، فإذا كان الفعل
السردي لا يمكن أن يتم إلا ضمن إطار حاضن له، تعبر عنه
الشخصيات(Personnages) بكامل تمفصلاتها في مساراتها التصويرية، فإن هذا لا
ينجز إلا عبر تخوم تجعل من البرمجة السردية أمرا ممكنا، وتحدد التخوم عبر
برامج فضائية، وزمنية موازية.
دفع اختلاف وجهة النظر إلى الشخصية، بالمقاربات التي ترومها إلى تطوير
أدواتها الإجرائية، فإذا كانت الرواية التقليدية تنظر إلى الشخصية بوصفها
شبه كائن (Pareil être) من لحم ودم، فإن المقاربات التي اعتمدت المناهج
السيميائية، قد نظرت إلى الشخصية من منظور آخر، حيث نجد رولان بارت مثالا
(Roland Barthes) يعبر عنها بوصفها "كائن من ورق"(Etre en papier) لا وجود
له إلا عبر الفضاء النصي الروائي، كما نجد فيليب هامون(Philipe Hamon)
ينظر إليها باعتبارها علامة كباقي العلامات الدالة، التي قد تشير إلى معادل
موضوعي في العالم الخارجي، وقد لا تحيل إليه، مسترشدا بمفهوم العلامة
(Signe) عند بورس(Peirce).
انبثق عن هذا التطور في النظر إلى الشخصية، في الرواية الحداثية، تصور أكثر
تطورا مثل مقاربات لوفيل (Louvel) ومونتادان (Montadan) التي تهم نظرية
الأيقونص (Iconotexte) أي التعالق اللفظي البصري في السرد، نظرت إلى
الشخصيات من جميع الاستعارات التي استقتها من السيميائيات البصرية خاصة،
كالكاركتير، والوصف البصري، والدلالة الأيقونية، وغيرها. وهذا ما نتبناه في
هذه الدراسة، وسنركز على رواية "البعيدون" لبهاء الدين الطود في استثمار
هذه المفاهيم.
استنادا إلى أن بورس [i] لا يرى أن الأيقون(Icône) هو ما يمثل معادلا
موضوعيا في العالم الخارجي، أي أن الأيقون ليس علامة تحيل بشكل غير تلقائي
إلى الشيء المرجع وحسب، بل إن الأيقون يتضمن أيضا ما ليس له معادل موضوعي
في الواقع.
إن هذا التحليل، كما يرى إيكو [ii] (Eco)، يجعلنا نرى أن ما يمكن تسميته
أيقونا هو صورة ذهنية تربط بين علامة، وبنية إدراكية، أي أن البنية
الإدراكية تلعب دور الوسيط بين العلامة والتجربة الواقعية.
أشارت إلى ذلك جماعة مو [iii](Groupe μ ) إلى هذا الأمر أيضا في النموذج
الثلاثي (دال أيقوني يحيل إلى مرجع عبر نوع) الذي اقترحته لتجاوز مشكل
الأيقونية في العلامة، عبرت عن الدال الأيقوني بوصفه مجموعة من المثيرات
البصرية المنذمجة، والمرجع هو قسم من الأشياء؛ إن ما نراه ليس هو المرجع
الواقعي بحد ذاته، وإنما قسم بين الأشياء، أما النوع فهو صورة ذهنية ليس له
محددات فيزيقية، يمكن أن يوصف استنادا إلى محددات مفهومية وفق الترسيمة
الآتية:
نوع
ولعل تطور هاتين المقاربتين بالذات، ناتج عن تطور الرواية نفسها، إذ تتعالق
والرواية الحداثية لا غير، حيث غدت الشخصية في هذه الأخيرة كائنا بلا
ملامح، قد تعبر عنها نقطة، أو بياض، أو حرف...وقد يعبر عن شخصيتين باسم
/علامة واحدة.
1-الشخصيات والدلالة الأيقونية
دال أيقوني مرجع
تحويل
يمكن أن تعرف العلامة الأيقونية باعتبارها منتجا لعلاقة ثلاثية بين ثلاثة
عناصر؛ أصل هذا النسق هو دحض العلاقة الاعتباطية بين الدال والمدلول،
فالعناصر الثلاثة هي: الدال الأيقوني والنوع والمرجع، ويمكن اعتبار
العنصرين الأخيرين يشكلان المدلول الأيقوني.
إن المرجع هو المسمى أو المعين، وهو مجموعة داخل قسم من الأشياء (لا يكون
بالضرورة واقعيا)، أما النوع فيتميز عن المرجع، فإذا كان هذا الأخير يحمل
محددات فيزيقية، فإن النوع يحمل محددات مفهومية، إذ يعد قسما؛ فمثلا مرجع
العلامة الأيقونية قط هو شيء خاص، لكن لا يحيل إلا على شيء يمكن أن يشترك
مع مقولة دائمة "الكون قط"، النوع عبارة عن صورة ذهنية ليس له محددات
فيزيقية، يمكن أن يتعلق بمحددات فيزيقية للمرجع (بالنسبة للقط فهو ينام
ويجلس ويمشي وله ذقن ...).أما الدال الأيقوني فهو مجموعة من
المثيرات البصرية المنمذجة.
من هذه المنطلقات النظرية يمكن الحديث عن ثلاثة دوال أيقونية في الرواية،
تعد شخصيات رئيسة: الدال الأيقوني"بيلار" والدال الأيقوني"كريستيان أيسن"
والدال الأيقوني"إيستر"، فالدال الأيقوني "بيلار" يحيل إلى مرجع ثقافي قد
يفيد كل ما هو اسباني، إننا أمام فتاة في مقتبل العمر، تجمع بين السمات
الجمالية والثقافية مما يجعلها تحيل بشكل تلقائي على بنية ثقافية محددة
سالفا، تعد أساس الكون القيمي المدريدي.
وهذه الدلالة الأيقونية يمكن أن نستشفها انطلاقا من نوع: أي ما يجعل من
العلاقة بين الدال الأيقوني"بيلار" والمرجع باعتباره قسما ثقافيا "اسبانيا"
أمرا ممكنا، والنوع هو مجموعة من الخصائص التي تجعل من هذا الربط ممكنا
"لون العيون، والثقافة، ومعيار الجمال، واللكنة...".
إن هذه المحددات كما يرى رولان بارث [iv]، تكشف عن الانتماء الثقافي وتوحي
به، وهذا ما يختزله المقطع السردي الآتي:
"في ذلك الزمان الفاصل بين محطمة ترام أوركوبيس، وبيتها في شارع الكنيسة
ابتدأت الخطوة الجريئة الأولى لتفسح المجال لخطوات أجرأ، لكن عيبي أني كنت
أكتم عنها عواطفي وعيبها أنها كانت تستر عني عواطفها"ص38.
يجعل الكون القيمي المدريدي المتأثر بالثقافة العربية هذه المحددات بارزة،
وهذا ما نجد عكسه عند"كريستيان آيسن" و"ايستر".
"هي تتحدث وأنا أمتص كأسي وأتساءل، من كان يتوقع أن كريستيان الصبية الخجول
ستلقنني دروسا في الفكر والكتابة؟ كيف لي أن أتقبل الهزيمة وأنا المثقف
المحرر في أشهر مجلة انجلوساكسونية"ص156.
إننا هنا أمام دال أيقوني "كريستيان آيسن"، يشير إلى مرجع ثقافي يحيل إلى
العذراء التي تجمع بين الجمال والثقافة، وسعة الاطلاع، فهي إذن تحيل
أيقونيا إلى كون قيمي مخصوص، ممثل في الطباع الهولندية، التي تستجمع
الثقافة الأوربية وتنصهر داخلها. وكل البديهيات المزيفة التي تقترن
"بكريستيان آيسن"، (شكل الجمال، وتصرفاتها الاعتباطية، وإباحيتها...) تحيل
أيقونيا إلى الثقافة الأمستردامية؛ أما الدال الأيقوني"ايستر" فيمكن أن
نستشف دلالته الأيقونية في:
"نعم أعلنت استسلامها في كلمات جريئة، وإن كانت ممزوجة بارتعاش جسمها،
وشوشت بها في أذني حتى لا تخفي طريقها إلى أعماقي:
أحبك منذ أشهر طويلة"ص14
إن الدال الأيقوني"ايستر" يحيل إلى مرجع ثقافي مخصوص يخضع لأكوان قيمية
تحدد له نمط وجوده، ورؤيته للعالم، فإذا كانت العلاقة الجنسية أساس
الارتباط بين "ايستير" و"إدريس"، فإنها تشكل المهماز الذي جعل العلاقة
تطول، لتكشف عن كون قيمي انجليزي يهودي، ما كان ليظهر لولا المفعول الجنسي
الذي يجعل من المتناقضات شيئا واحدا.
يحيل الدال الأيقوني"ايستر" إلى مرجع مخالف للمرجع الذي يحيل إليه الدال
الأيقوني "بيلار" والدال الأيقوني"كريستيان آيسن"، فإذا كانت الدلالة
الأيقونية في "بيلار" تحيل إلى تمفصلات الثقافة الاسبانية، وهي لا تختلف
كثيرا عن الكون القيمي الذي يعيشه"إدريس"، باعتباره دالا أيقونيا يحيل إلى
مرجع ثقافي يمثل كل ما هو عربي، طبعا، وثقافة، ورؤية للعالم، ولهذا لم نجد
ذلك الصراع بين تصوريهما للعالم، لكن عندما نعرج إلى "كريستيان آيسن" نجد
المعادلة صعبة، حيث تختلف الدلالتين الأيقونيتين التين يشكل "إدريس"
و"كريستيان آسين" محوريهما، وبالتالي فإن الاختلاف البين في المرجع الثقافي
نتج عنه اختلاف بين الدلالة الأيقونية لكل منهما.
أما اختلاف الدلالة الأيقونية "إدريس"، والدلالة الأيقونية لـ"ايستر"
بوصفها يهودية تعود إلى كون قيمي مناقض، فإن الائتلاف بين هاتين الدلالتين
الأيقونيتين، قد تمت من خلال الفعل الجنسي، باعتباره سلاحا قاهرا يوفق بين
الدلالات ويجعل من المنفصلات شيئا واحدا.
يرى فليب أوغتيل [v] (Philipe Ougtel) أن تعالق الأدب مع فنون الرسم،
والسينما ولد مجموعة من الاستعارات في الرواية الحداثية، نذكر منها الوصف
البصري، حيث يقدم تعريفا له بقوله: [vi] "إن الوصف البصري تقنية تسمح بوصف
شخصيات وأمكنة، ومشاهد، أو جزئيات مشهد، كما لو كانت لوحات أو مواضيع
لوحات، واستعمال كتاب الفن له، له نهايات فنية وقيمية، وجمالية"؛ كما يرى
أن ما يمكن أن تنعته وصفا بصريا، هو وصف أو صورة، يجب أن تكون بالأساس
قابلة لأن تترجم إلى رسم أو داخل أي عمل بصري آخر.
وتجدر الإشارة إلى أنه في رواية "البعيدون" يندمج الوصف البصري مع النمط
النموذجي (Prototype) الذي يشير إلى المثال الأسمى [vii] للشخصيات، حيث
تعبر كل شخصية من الشخصيات الأساس، على نمط نموذجي لقيم معينة.
ترجع فكرة النمط النموذجي إلى روش(Roch)(1973) كما أشار إلى ذلك جورج
كليبر(George Kléber) [viii]حاولت من خلاله تجاوز قصور معيار الشروط
الضرورية والكافية، من هنا ينظر إلى"بيلار" بوصفها نمطا نموذجيا للفتاة
الاسبانية اعتمادا على الوصف البصري لها:
"واصلت استراق النظر إليها، شعرها كستنائي حريري ينسدل فوق معطفها، لا، ليس
حريريا تماما، بل تتخلله تموجات، تشبه مويجات النهر حين تهب عليه رياح
خفيفة ممزوجة بشعاع ذهبي يرسله قرص الشمس، بل مغيبه"ص37.
يمكن أن يختزل هذا الوصف البصري في لوحة رسم تظهر من خلالها "بيلار" نمطا
نموذجيا للفتاة الاسبانية، بكل المواصفات الجسدية، والحركية وغيرها. ونقول
الشيء نفسه عن "كريستيان آيسن" حيث تعد نمطا نموذجيا للفتاة الهولندية،
اعتمادا على الوصف البصري لها:
"وجهها صاف رائق من غير مساحيق تجميل، لربما تضعها خفيفة، جسدها المرمري
يوحي إلي بأشياء كثيرة رائعة ولذيذة"ص151.
إنها أشبه بلوحة الجوكندا التي حيرت الفنانين وكل محبي الجمال، هذا الوصف
البصري يجعلنا أمام نمط نموذجي من نوع آخر، لكون قيمي هولندي، له خصوصيته،
وله أبعاده الأيقونية، التي تجعله يختلف عن القيم الاسبانية.
أما بالنسبة للشخصية الرئيسة الثالثة، وتهم "إيستر"حيث تعد نمطا نموذجيا
لإنجلترا بكل حمولتها الجنسية والثقافية، عبر الوصف البصري:
"ولاحت "ايستر" بعد أن أصلحت حزام فستانها الأسود الطويل، وقد أطال قامتها
حذاء أسود بكعب عال، ولفت ظهرها، وكتفيها بشال حريري، فوقه أقراط خضراء
تدلت من أذنيها، لم يكن لها أدنى شك في أناقتها، ولا في أنوثتها المفرطة،
أنا متأكد من ذلك وإلا ما استدارت حول نفسها تطلب رأيي في هيأتها. صفرت
بفمي تعبيرا عن اندهاشي"ص167.
إننا استنادا إلى التحليل البارثي [ix] أمام امرأة شبه عارضة أزياء، تقدم
نفسها نموذجا مثاليا لكل النساء، تقدم نفسها مرتعا لكل العاشقين، مشتهاة،
تجعل عين الناظر تنساب مع كل جزئياتها، من قنة الرأس مرورا بسهام العينين،
إلى لذة نص الخصر، إلى أخمص القدمين، كل تفاصيلها الجسدية تنطق، نظراتها
تقول وغمزاتها تعبر، والكل فيها له معنى، وبذلك استحقت أن تكون نموذجا
لإنجلترا "إنها الملكة".
هكذا تقدم الشخصيات الثلاث بالخصوص"بيلار" و"كريستيان آسين" و"ايستر"
بوصفهن أنماطا نموذجية، انطلاقا من الوصف البصري لهن. لكن لم لا تكون واحدة
وحسب؟
لعل ما يحكم النمط النموذجي هو الأكوان القيمية المخصوصة، التي نستند
إليها في الحكم، فما يراه المغربي نمطا نموذجيا ليس هو ما يراه الياباني،
وهذا ما يجعل من تعدد الأنماط النموذجية شيئا واردا، لتعدد الأكوان القيمية
في الرواية"اسبانيا" و"هولندا" و"انجلترا".
إن هذه الأنماط النموذجية التي استقيناها من الوصف البصري للشخصيات
الثلاث، أشبه ما تكون بتصوير ملكات جمال، حيث أمكن الحديث عن النمط
النموذجي "بيلار" بوصفها "ملكة جمال اسبانيا" والنمط النموذجي "كريستيان
آيسن" بوصفها ملكة جمال هولندا، و "أيستر" ملكة جمال انجلترا بكل الدلالات
الأيقونية التي يمكن أن تحيل إليها هذه الأنماط.
كما يمكن الحديث داخل الرواية أيضا عن أنماط نموذجية تشكل الذكورة
بؤرتها الكبرى، حيث ننظر إلى"إدريس" بكل المضامين التي يحبل بها بوصفه نمطا
نموذجيا للعربي المغربي، بكل التمفصلات الدلالية، والقيم التي يحيل إليها:
"أرماندو نموذج للقشتاليين، يصمت طويلا، وحين يتحدث يوضح كل ما يموج في
ذهنه"ص94.
"السيد عباد اشبيلي الأصل يتحدر دون شك من سلالة بني عباد فأنفه الشامخ
وبشرته القمحية تجعلانك تجزم بأنه سينطق بالعربية" ص43.
غير أن هذه الأنماط النموذجية الذكورية تظل هامشية وثانوية، إذا قورنت
بالأنماط النموذجية الإناثية، التي تغدو وعاء تصب فيه مختلف التجارب
الإنسانية، والمضامين التي تعد سندا لبناء دلالة أيقونية لكون قيمي بأكمله.
نقصد بالموجهات ما أشار إليه إيكو بـ(Pictogramme) [x]، وهو يتحدث عن
شخصية سيكما (Sigma) الإيطالي الذي يتوجه إلى فرنسا، ولا يعرف الفرنسية،
ثم يحس بألم في معدته، وعليه أن يلتقي الطبيب، فتعمل مجموعة من الموجهات
على إرشاده مثل اللافتات، وعناوين المحلات، وشارات المرور وغيرها.
يعد هذا المضمون واردا بصدد رواية "البعيدون" لأن السارد/الشخصية "إدريس"
أشبه ما يكون بسيكما (Sigma) إيكو، حيث تتعالق الرواية بمحكي السفر(Récit
de voyage) باعتباره حسب دانييل هنري باجو(Daniel Henry Pageux)، [xi]
مجموعة من الأفكار حول كون قيمي معين في شكل قالب أو ميث (Mythe)، تمت
معالجته في صيغة أدبية مخصوصة، تكون استشراكية وتمثيلية، إنها تعبر عن
ثقافة لها خصوصيتها، ولها نمطها في التدليل والاشتغال، ولعل الحديث عن
الثقافة، هو في الوقت نفسه حديث عن أكوان قيمية، فما يبرز خصوصية ثقافة
معطاة هو الحدود القيمية التي تحددها تنشئتها الاجتماعية، ونظرتها للعالم.
واعتقد أن اختيار البعد الصوري للثقافة المنبنية على الكون القيمي المخصوص
لا يتم إلا من خلال موجهات، بتعبير إيكو، إننا إذن أمام كونين دلاليين
متنافرين: كون دلالي يمثله "الأنا" السارد "إدريس" وكون دلالي آخر مخالف
تمثله الشخصيات "بيلار" و"كريستيان آيسين" و"ايستر"؛ ولمعرفة الكون الدلالي
الآخر بالنسبة لـ" إدريس" لابد أن يستشير بموجهات تجعل من معرفة الآخر،
وفهم أسراره أمرا ممكنا.
غير أن الدلالات التي تحبل بها المضامين السردية التي تجمع بين الأكوان
القيمية، تربطها علاقات من نوع مخصوص، أساسها الاشتهاء، والتداخل الجنسي،
إنها ربط بين الفحولة أو ما يعود إلى الكون القيمي العربي "إدريس"،
والاشتهاء، والنعومة والأنوثة، واللذة أو ما يحيل على الكون القيمي الغربي
الممثل في"بيلار" و"كريستان آيسن" و"ايستر"، من هنا يمكن أن نستجلي علاقات
من نوع آخر كالصراع، والتمايز الثقافي، والرؤية إلى العالم:
"إنها هدية من صديقة يهودية، مختصة في النقد لفني المعاصر، قال ذلك وانسحب
إلى المطبخ دون أن يدري أنه تركني في حيرة من أمري، هو الذي كان يجهر أمام
أصدقائنا الإسبان. بأنه لا يفرق بين اليهود،والصهاينة، فمادامت الصهيونية
تخدم اليهود، فكل اليهودهم صهاينة".ص23
تمثل اللوحة/الهدية موجها رئيسا في إبراز التحول الذي اعترى "إدريس" في
نظرته لليهود والصهاينة.
"ورحت أفكر أيهما أفضل: حياتي مع والدتي، أم حياة خوصي مع والدته؟ معادلة
قد تبدو سهلة، لكنها ليست كذلك، فقيمي الموروثة ليست قميصا يمكن لي
استبداله متى شئت، أنا أحمل ميراثا تراكم من سلف إلى خلف لينغرس في وجهي
وعيني، لأكون حصيلة تلك البذور الأولى" ص44.
يوجه هذا النص الرؤية بكاملها بالنظر إلى كونها صراعا بين أكوان قيمية
عربية وأوربية، يبرز ذلك المقطع الآتي:
"صدمت، بكيت من كثرة صدماتي، عانيت ليالي طوالا، ولم أفلح في التوصل إلى أي
القيم أصدق، أتلك التي خلفتها هناك؟ أم هذه التي أتنفسها؟ "ص 55.
هذا الاختلاف في الأكوان القيمية يجعل"ادريس" يختلف عن صديقاته الغربيات،
استنادا إلا هذا الاختلاف نفسه، فلكل تصوره ونمط رؤيته للعالم:
"لكن كريستان ضحكت وقالت: إنها أشياء طبيعية، فثقافتي هي امتداد للثقافة
الأوربية القائمة على التنوع لا التنافر، فهي جزء من الكل، وبذلك فإني لا
أحس بأي استيلاب، ثم أضافت : إذا كنت في اعتقادك مستلبة، فإن
الراحل"السيركورسين" المعجب بثقافتك" ولغتك هو أيضا مستلب" ص153.
نلمس الشيء نفسه في علاقته "بايستر":
"إذن علي أن أتقبل العلاقة في إطارها الحقيقي، العادي، علاقة رجل بامرأة
بدون أي اعتبار للعنصر العرقي أو الديني أو الإيديولوجي، ثم كيف أعيب على
الآخر هذه المواقف وانشبت أنيابها" ص168.
تعبر هذه المقاطع السردية وغيرها عن المعادلة الصعبة التي تربط بين كونين
قيميين مختلفين، لكل له تنشئته الاجتماعية، وله نظرته المخصوصة للعالم، كون
تمثله الأنا بكل تمفصلاتها، الدلالية، وإيحالاتها الأيقونية، وكون آخر
يمثله الآخر بكل دلالاته الأيقونية المختلفة عن الأول، ولعل ما يجعل من
استنباط هذه المعادلة أمرا واردا، هي تلك الموجهات الحافلة في الرواية، مثل
الصور، والأفكار، واللباس، وشكل معيار الجمال وغيرها.
إذا كان الوصف البصري الذي قدمناه سالفا، قد يشير إلى الاشتهاء والرغبة،
مادمنا أمام أنماط نموذجية مخصوصة، كل الموجهات التي تحوكها الخيوط
السردية، تحيل إلى ذلك، فإن الاختلافات القيمية التي تربط بين الأنا
والآخر، تجعل من الرغبة تذوب في ثنايا الاختلاف، والاستلاب، والانتقام، لكن
حضور الجنس بوصفه يجمع بين كيانين، ويوحد بينهما، يجعل من تجاوز الفوارق
أمرا ممكنا، حتى يغدو الأنا آخر، والآخر أنا، وتصبح الصورة واحدة. حيث تفنى
الذات في الأخر ويصبح الآخر، بتعبير محي الدين بن عربي، أنايا التي ليست
أنا. وتحيل إلى ذلك المقاطع الآتية:
"اضطربت وتحركت همتي حين أبصرت بيلار، لأول مرة كان ذلك في مقصف كلية
الآداب، الوقت كان مساء، أجل في تلك اللحظة تقرر كل شيء، أو كان مقررا قبل
أن أركب البحر إلى اسبانيا، وددت مع نفسي وأنا انظر إليها مأخوذا بفتنتها،
إنها الملاك الذي جاء بي إلى مدريد بامتلاكها أكون قد امتلكت اسبانيا" ص36.
قد يثير اختفاء الفعل الجنسي شيئا من الغرابة، لكن حضور موجهات ودوال
أيقونية دالة على الفعل الجنسي ترفع الالتباس مثل: اضطراب فتنتها، ملاك،
امتلك، كل هذه الدوال الأيقونية تختزل الفعل الجنسي، حيث إن لذة الجنس التي
تجعل من "بيلار" و"إدريس" شيئا واحدا، تجعل من الكون القيمي المختلف كونا
واحدا، قد يستصغر بالفعل الجنسي المباشر، لكن عندما يحتفظ به عبر دوال
أيقونية يكون أكثر تأثيرا. ونجد الشيء نفسه بصدد"كريستيان آيسن":
"ومثلما كنت أسرق النظر إليها، لاحظت أنها كانت تسرق النظر إلي، فزادت نفسي
انتشاء... هذا المساء قلت لن أقرأ ولن أكتب ولن أنام"ص152.
أما مع"اسيتر" فالأمر أكثر وضوحا:
"وفطنت إلى أنها تحاول شم رائحة أنفاسي لتعرف ما إن كنت مخمورا، ضحكت منها
في سريرتي، ذلك أن خمرتي لم تكن لها رائحة تدرك بالحواس، وحين شعرت
بأصابعها تلامس شعر رأسي، عرفت أن قدمي قد وطئت الأرض، وأنا الراية البيضاء
مرفوعة، ثم أعلنت استسلامها في كلمات جريئة"ص166.
"ها هي الفوارق قد أخذت تطرق رأسي، بينما وهي بين ذراعي لم يكن بيننا سوى
المساواة والإخاء والتضامن"ص167.
ليس الجنس في"البعيدون" مطلوبا لذاته، وإنما هو الكفيل فقط بتماهي الصورة،
حيث لولاه لما طمست تلك الفوارق التي تجعل من المضامين السردية، تخضع
لمعادلة صعبة تحكمها أكوان قيمية لا سبيل إلى الجمع بينها، وبهذا يظل الجنس
هو الموحد وهو القوة القاهرة للتواجد والفناء.
تعد المرأة في هذه الرواية وعاء تصب فيه جميع المضامين التي تشكل أيقونات
دالة على ثقافة معطاة سالفا، ولعل ما يزكي ذلك هو أن"إدريس" لا يكترث
لامرأة بعينها، إن المرأة هي فضاء للفعل، ووعاء للانتشاء، فاقدة بذلك كل
حدودها القيمية التي تجعل منها كيانا مكملا للقيم الذكورية:
"من أية طينة أنت يا إدريس" ماذا فعلت ليتحول الطاووس المتعجرف المتعالي
إلى أرنب وديع في بيتك" ص53.
"لاستكشاف خبايا تلك الجزيرة التي صار غزلانها قاب قوسين من غنائي" ص:60.
"أرخيت حواسي لعذوية صوتها وحركاتها، ملمحا وهي تتحدث إلينا، خلتها أرنبا
يطل من مخبئه باحثا عن الأمان"ص60.
إن تشبيه العذارى بالقطط والغزلان والأرانب له ما يبرره، إن الكون الذكوري
يتصور المرأة، وعاء للاشتهاء، وبالتالي فالمرأة هي كل ما هو صغير وشاب
وجميل، يختزل في الشابة" السطاشية"، وماعدا ذلك ينظر إليها في حدود أبعادها
النفعية، فما قيمة ثديي عجوز، وخاصرتها، إذا لم تبق عند حدود الاستعمال
النفعي فقط، بينما القيم المتعية تتطلب مؤشرات لا تتوفر إلا في العذراء ذات
النهدين والخاصرة الجذابة.
2-الوصف البصري والنمط النموذجي
3-الموجهات والأكوان القيمية
4-الجنس وتماهي الصورة
إن الوصف البصري (Description picturale)في رواية"البعيدون" قد جنح في
كثير من الأحيان إلى التصوير الكاريكاتيري، بغية إعطاء تمثل للشخصيات، فنحن
حينما نقرأ الرواية نضطر إلى إنتاج صور ذهنية، لأن المظاهر الهيكلية للنص
تكتفي بإخبارنا عن كيفية تشكل الموضوع المتخيل، وبهذا فإن الطابع البصري
للتمثل يستثمر معرفة قدمت للقارئ وأشير إليها، وهذا يعني أن الأمر لا يتعلق
بالكشف عن تأليفات مقترحة من خلال الصورة.
5- الشخصية: الكاريكاتير والتمثل
ولعل اقتران التمثل(Representation) بوصفه يعود إلى إنتاج صورة ذهنية
انطلاقا من المخطط التخييلي، بالكاريكاتير الذي يسمح في الغالب، كما يرى
دومنيك(Dominique) [xii]، بمقاربة سريعة، تضلل من خلالها وجهتها الساخرة
والمضحكة، لكن تغطي فقط تسلية بسيطة، وهي تدور فقط على مشاهدتنا لحركة
بسيطة للقلم، وباعتراض سهل لحدسية اللحظة.
يقدم تمازج التمثل بالكاريكاتير في الرواية أثر معنى مفارق، أوتسخيرا
(Ironisation) عبر انزياح يخلق فعل المفارقة، إذ ينتج علاقة من درجة ثانية،
إن العلاقة التي تربط بين الفكرة الأولى المرتبطة بكلمة"سيرورة تصويرية
للكلمة أو ملفوظ ما" والفكرة الجديدة التي يمكن أن ترتبط بها، وفق مقامات
مخصوصة، هي ما يجعل من ربط الفكرة الأولى التي ترجع إلى المعجم الذهني،
بالفكرة الثانية التي ترجع إلى الموسوعة الإدراكية أمرا أو واردا" [xiii].
"ولا أعرف كيف اقتحمتني رغبة مشاهدة قرية مغربية، أو قروي يمتطي حماره،
وتترجل خلفه امرأته حافية القدمين، حذاؤها تمسك به في يدها خوفا عليه من
وسخ الطريق" ص71.
لايخفى الأثر الساخر للكاريكاتير هنا خصوصا إذا قارناه بنظرة السارد إلى
المرأة الأوربية التي تناقض جارتها المغربية.
"السيد عباد اشبيلي الأصل، ينحدر دون شك من بني عباد، فأنفه الشامخ، وبشرته
القمحية تجعلانك تجزم بأنه سينطق العربية... يضحك وتنشرح أساريره، حينما
أناديه بالسينيور عباد فانطقها بالغين العربية" ص43.
"مرة أخرى اختلست نظرة إلى حاجبيه المعقودين، ورباط عنقه الأسود قدرت في
نفسي أن مقاس قميصه الأبيض من أكبر مقاسات البلد، يداه أيضا ضخمتان، وقد
بسطها فوق مكتبه المغطى بأنواع الصحف والمجلات وقصاصات من ورق ذات عناوين
بارزة".ص:52
إن الكاريكاتير هو المهماز الذي من ورائه يحدد السارد رؤيته للعالم
والأشياء، ومن خلاله يفضح التناقضات التي تعتري الأنا، والآخر، وفق خلق أثر
معنى ساخر له طبيعته المخصوصة.
نتائج
إن وظيفة الشخصية داخل المسار التصويري للرواية هي التي تحدد سماتها
المميزة ،كما تحدد رؤيتها للعالم و الأشياء، غير أن إدراك هذه السمات
المميزة انطلاقا من المعطى اللغوي، يبنى بوصفه صورة مختلفة عن المستوى الذي
نتمثله من خلال الصورة الذهنية التي تنطبع لدينا عند قراءة النص بكامله.
ويمكن من خلال ما سبق أن نطمئن إلى النتائج الآتية:
• إن المقاربات السيميائية للشخصية في الرواية، المعتمدة بالأساس
على استثمار المفاهيم البصرية، تقدم نتائج مهمة وضحتها دراسات مختلفة.
• إن الشخصيات الرئيسة في الرواية "بيلار"،"وكريستان آيسن"،
"وايستر" تعد أنماطا نموذجية تحمل دلالات أيقونية للأكوان القيمية التي
تحيل إليها.
• إن رواية"البعيدون"قد توسلت بمجموعة من الآليات السيميائية منها:
الوصف البصري، والكاريكاتير، والدلالة الأيقونية، في وصف الشخصيات وأنماط
التدليل.
• يعد التصوير البصري كشفا للأكوان القيمية التي تتحرك فيها وعبرها
الشخصيات، كما يحدد نمطها في التعبير
والرؤيا.