بدأ الرسول (ص) فور تثبيت أسس دولته الجديدة في المدينة صراعه ضدّ الوثنية في شبه الجزيرة العربية وزعيمتها قريش، وتمثّل ذلك بشنّ حروب صغيرة متقطعة ضدّ المواقع القرشية واعتراض تجارتها، أطلق عليها المؤرخون اسم السرايا، واستهدفت إرباك قريش وإضعافها وتحطيم معنوياتها من خلال ضرب نشاطها التجاري الذي كان يمثّل عصب الحياة الاقتصادية والشريان الوحيد لوجودها، من جهة الحصول على موارد اقتصادية ومالية في أعقاب الضائقة الاقتصادية والمالية التي كان المسلمون يعانون منها، هذا فضلاً عن إنذار القوى المعادية من المنافقين والمشركين واليهود في الداخل والقبائل العربية في شبه الجزيرة العربية بأنَّ المسلمين قادرون على ردّ العدوان ومستعدون للتصدّي لأي اعتداء يحصل عليهم.
كما أنَّ لهذه السرايا والغزوات أهدافاً أخرى تكمن في عملية الإعداد الدائم والتدريب على كيفيات المواجهة، وهي بالتالـي تدخل في إطـار تنمية القدرات القتالية على قاعدة {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو اللّه وعدوكم}(الأنفال:60).
ومن هذه السرايا:
أ ـ سرية حمزة بن عبد المطلب: انطلقت هذه السرية في منتصف السنة الأولى للهجرة بقيادة حمزة بن عبد المطلب على رأس ثلاثين راكباً؛ خمسة عشر من المهاجرين وخمسة عشر من الأنصار، وصلوا إلى سيف البحر الأحمر من ناحية العيص حيث كانت تقيم قبيلة جهينة، وكانت أرضها معبراً للقوافل التجارية المتجهة إلى الشمال ـ أي الشام ـ وقد استهدفت السرية عيراً لقريش جاءت من الشام تريد مكة، فالتقت أبا جهل في ثلاثمائة راكب من أهل مكة، لكن مجدي بن عمرو الجهني حجز بين الفريقين، ولـم يقع اشتباك، وكان يحمل لواء الحمزة في هذه المحاولة رجل يدعى أبا مرثد.
مما تقدّم يبدو أنَّ موقع سيف البحر وكونه ممراً لا بُدَّ للقوافل من المرور به، كان يتمتع بأهمية كبرى جعلت الرسول (ص) يوجه أنظاره إليه في إطار سياسته الهادفة إلى إرباك قريش في تجارتها وإشعارها بمخاطر سياستها تجاه المسلمين.
ب ـ سرية المرّة: وفي شوال، انطلق عبيدة بن الحارث على رأس ستين رجلاً من المهاجرين يحمل أمر الرسول (ص)، بالمسير إلى بطن (رابغ) على عشرة أميال من الجحفة، وهي منطقة ساحلية أيضاً، فالتقوا بمائتين من المشركين يقودهم أبو سفيان على ماء يدعى "إحياء"، ولـم يكن بين الطرفين قتال، ولعلّ السبب يعود إلى حدود الصلاحيات المعطاة لعبيدة بن الحارث، والتي حصرها الرسول (ص) في دائرة ممارسة الضغط النفسي على قريش، وهذا ما توحي به خطوة سعد بن أبي وقاص، الذي رمى يومئذٍ بسهم، وكان أول سهم رمي في الإسلام، ولكن هذه الخطوة لم تلقَ تأييداً من إخوانه الذين ترسوا عنه على حدّ تعبير الواقدي.
ج ـ سرية سعد بن أبي وقاص: وفي ذي القعدة خرج سعد بن أبي وقاص في عشرين رجلاً مشياً على الأقدام، فكانوا يكمنون نهاراً ويسيرون ليلاً. وفي اليوم الخامس عشر بلغوا الخرار، وهي من الجحفة قريبة من خم، وهذه المنطقة ساحلية أيضاً. وكان الرسول(ص) قد أمرهم بألا يجاوزوها، وكان الهدف اعتراض قافلة لقريش، غير أنَّ سعداً لـم يدرك القافلة التي سبقت سرية المسلمين بيوم واحد، فلم يلاحقها لأنَّه لـم يؤذن بملاحقتها.
د ـ غزوة الإيواء أو ودّان: وفي صفر من السنة الثانية، خرج الرسول (ص) بنفسه على رأس عددٍ من أصحابه، وهي المرة الأولى التي يقود فيها غزوة بنفسه، مستهدفاً قريشاً وبني ضمرة، حتّى بلغ (ودّان)، فوادعه بنو ضمرة بقيادة محشى بن عمرو الضمري. ولعلّ هذا الذي دفع بالرسول (ص) لقيادة الغزوة بنفسه. أمّا الهدف الثاني فكان اعتراض عير لقريش، وهذا لـم يختلف عن المهمات السابقة لا في أصل فكرة الاعتراض ولا في المكان وهو الساحل، الذي كما يبدو من التركيز عليه في غزواته، يريد جعله غير آمن مطلقاً.
ويصف الدكتور عون قاسم في كتابه "نشأة الدولة الإسلامية" موقع بني ضمرة بأنَّه ذو قيمة عسكرية لا تُقدّر بثمن في الصراع بين الرسول (ص) وقريش، الأمر الذي أولاه أهمية بالغة في مجرى الصراع، فاقترب من بني ضمرة علّه يوفق في البداية إلى ضمان عدم انحيازهم إلى خصومه الذين كانت تربطهم بهم علاقات ودية حميمة، وبالفعل، وادع بني ضمرة بشخص زعيمهم، كما مر، على "أن لا يغزو بني ضمرة ولا يغزونه ولا يكثروا عليه جمعاً ولا يعينوا عليه".
ما تحقّق في ودّان كان كبيراً وعظيماً سهّل من حرية حركة المسلمين في سراياهم وغزواتهم وتواجدهم في المنطقة بشكل دائم، مما يمكن اعتباره ضغطاً من الرسول (ص) باتجاه تحقيق توازن في منطقة كانت خاضعة بكاملها لهيمنة وسطوة القرشيين.
هـ ـ غزوة بواط: وفي ربيع الأول من السنة نفسها، خرج الرسول (ص) على رأس مائتين من المهاجرين والأنصار إلى بواط، وهي منطقة قرب المدينة لجهة الساحل أيضاً، معترضاً عير قريش التي كان يقودها أميّة بن خلف ومعه مائة من المشركين، إلاَّ أنَّه لـم يلقَ كيداً لأنَّه لـم يدركها.
و ـ غزوة العشيرة: استخلف الرسول (ص) على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد، وفي أخرى سعد بن عبادة، وانطلق لغزو قريش حتّى انتهت به المطاف إلى العشيرة قريباً من ينبع الواقعة على الساحل تماماً. فأقام كما جاء في سيرة ابن هشام كلّ جمادى الأولى وليالي من جمادى الآخرة.
ومن اللافت أنَّ هذه هي المرة الأولى التي يقيم فيها الرسول (ص) طول هذه المدّة في حركة السرايا، وهذا يعني أنَّ الهدف لـم يكن اعتراض عير قريش أو التضييق على تجارتها فحسب، بل يكمن في إطار الضغط السياسي عليها، وتوسيع حلفه السياسي، في خطوة لفك الحصار عن المسلمين من جهة، وفك التحالف القائم بين قريش والقبائل العربية من جهة أخرى في خطوة لاحقة، وإضعاف هذا التحالف وتقليص الهيمنة والنفوذ القرشيين. وهذا ما دلّت عليه بوضوح لقاءات الرسول(ص) مع القبائل العربية التي أثمرت عن توقيعه عقود الموادعة مع بني مدلج وحلفائهم من بني ضمرة.
ومن اللافت، في المقام، أنَّ مجرّد المكث بين هذه القبائل مدّة طويلة لا يكفي لإقناعهم بضرورة الموادعة والوقوف على الحياد، وإنَّما هناك عوامل أخرى ساهمت في إخراج عقد الموادعة وتحقّقه؛ منها: قرب هذه القبائل من المدينة التي كانت على الأرجح تشكل السوق الأساسية لهذه القبائل ومصدر عيشها، وتخليها عن ذلك إنَّما يشكل خطراً على ديمومتها وبقائها، خاصة وأنَّ السرايا والغزوات التي كانت تتعقب قريش وتجارتها أشعرتهم بضرورة إيجاد نـوع من المهادنـة والموادعة لأجل الحفاظ على مصالحهم. ومن جانبه، كان الرسول (ص) يرغب في تحييد هذه القبائل أو محالفتها إن أمكن، وذلك ليضمن حرية الحركة له بين هذه القبائل، والعمل بعدئذ على تأهيلها وجعلها مستعدة لاعتناق الإسلام في المستقبل.
ز ـ بدر الأولى: وبعد أيام معدودات من عودة الرسول (ص) من غزوة العشيرة، قام كرز بن جابر الفهـري بغارة على مواشي المدينة وإبلها التي تسرح في أطرافها، فلاحقه الرسول (ص) بنفسه حتّى بلغ وادي سفوان قريباً من بدر، وفاته كرز فلـم يدركه، فرجع إلى المدينة وسميت هذه المطاردة باسم بدر الأولى.
ويُفهم من هذا الردّ السريع لقريش على الرسول (ص) والمدينة، أنَّ هذه السرايا والغزوات كانت قد دلّت بوضوح أنَّ السياسة التي اتبعها في محاصرة قريش والتضييق على تجارتها كانت قد أشعرت قريش بخطورة الموقف، وفي المقابل نجد أنَّ موقف قيادة المدينة يوحي أن لا تراجع عن محاصرة القرشيين مهما كانت التحدّيات والتضحيات، وهذا ما يدلّ عليه بوضوح خروج الرسول (ص) فوراً في طلب كرز.
ح ـ سرية عبد اللّه بن جحش: وتعدّ هذه السرية من أخطر الأعمال العسكرية التي قام بها المسلمون طيلة ما يزيد على سنة، ولعلّها هي التي فجرت الصراع العسكري المفتوح والمكشوف مع قريش، ووجه الخطورة أنَّ الموقع المقصود هو نخلة بين مكة والطائف، ولعلّه كان يستهدف الطريق التجاري الذي تسلكه قوافل مكة إلى اليمن.
كما أنَّ الطريقة التي أعدت بها هذه السرية تدلّ على مدى أهميتها، حيثُ ما إن قفل رسول الله(ص) عائداً إلى المدينة بعد مطاردته كرز حتّى جرّد ثمانية مقاتلين، وقيل اثني عشر من المهاجرين بقيادة عبد اللّه بن جحش، وكتب كتاباً وأمره أن لا ينظر فيه قبل مسيرة يومين، فيمضي لما أمره الرسول (ص) به ولا يستكره من أصحابه أحداً، وبعد يومين فتح عبد اللّه الكتاب السري وقرأ ما فيه:
"إذا نظرت في كتابي هذا فامضِ حتّى تنـزل بوادي نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارها". وما إن أتمّ عبد اللّه قراءة الكتاب حتّى قال: "سمعاً وطاعة. ثُمَّ التفت إلى أصحابه وقال: قد أمرني الرسول (ص) أن أمضي إلى نخلة أرصد بها قريشاً حتّى آتيه منهم بخبر. وقد نهاني أن أستكره أحداً منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأمّا أنا فماضٍ لأمر رسول اللّه، فأجابه أصحابه جميعاً ومضوا حتّى نزلوا بنخلة، فمرّت بهم قافلة لقريش تحمل تجارة لمكة، فهاجموها وقتلوا أحد أفرادها وهو عمرو بن الحضرمي، وأسروا اثنين آخرين، وقفلوا عائدين بالبضائع والأسيرين إلى المدينة".
لا شك أنَّ سرية ابن جحش كانت رسالة واضحة لقريش أدركت بسرعة دلالاتها، فيُقال إنَّ القوم عندما رأوا المسلمين تشاوروا وقال بعضهم:"واللّه لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلنّ الحرم".
وقد سجلت هذه السرية أحداثاً لـم يسبق أن حصلت سابقاً:
· مباشرة القتال في الشهر الحرام وهو شهر رجب.
· أسر اثنين من المكيين وحملهما إلى المدينة.
· وضع اليد على جزء من القافلة.
هذه المستجدات لـم تكن كما يبدو في أصل فكرة السرية، ولا تهدف إلى ذلك، إنَّما كانت أهدافها واضحة من خلال ما جاء في نص الكتاب: "فترصد بها قريش وتعلم لنا من أخبارها". ولذلك نجد أنَّ الرسول (ص) قد امتعض مما جرى، وخاصة في ما يتعلّق بالقتال في الشهر الحرام، حيث قال: ما أمرتكم بقتال في الأشهر الحرم، وأوقف التصرف بالأموال والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً.
ونظراً لمكانة الأشهر الحرم وعظيم أهميتها عند قريش والعرب، فقد شنت حملة عنيفة على النبيّ (ص) والمسلمين بسبب انتهاكها، واعتبرت أنَّ ذلك سابقة خطيرة، إذ "استحل محمَّد وأصحابه الشهر الحرام وسفكوا فيه الدم وغنموا الأموال وأسروا الرجال".
وإزاء هذه التطورات، كان للوحي موقف حاسم من ذلك، ودحض مزاعم قريش وادّعاءاتها، معتبراً أنَّ إخـراج النّاس من ديارهم هو الفتنة، وكانت قريش قد مارست أعمالاً عدوانية ضدّ المسلمين في الأشهر الحرم، لفتنتهم عن دينهم، وجاء في قولـه تعالى: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصدٌّ عن سبيل اللّه وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند اللّه والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتّى يردّوكم عن دينكم إن استطاعوا} (البقرة:217).
مما تقدّم، بإمكاننا أن نعتبر أنَّ سرية عبد اللّه بن جحش قد أحدثت تحولاً في مجرى الصراع بين قريش والمسلمين إذ انتقل من الرصد واعتراض القوافل والمناوشات الخفيفة، إلى مرحلة الصراع الدامي والمكشوف، فكأنَّها دلّت أيضاً على الخطر الذي باتت الدولة الناشئة تشكله على كيان قريش ومواردها الاقتصادية المتمثّلة بالتجارة، وعلى مدى استعداد المسلمين لحمل السّلاح وقتال الوثنية دونما تردّد أو مساومة، مع ما ترافق ذلك من كسر للتقاليد الشكلية وتجاوزها في سبيل إرساء العقيدة الجديدة، ناهيك عمّا أفرزته من حالة معنوية وروحية حفزت المقاتل المسلم على المضيِّ قُدُماً في سبيل نشر دعوته.
أمّا على صعيد قريش، فإنَّها شعرت بأنَّها محاصرة بالسرايا والغزوات التي كان يقوم بها المسلمون، ما جعلها في موقع حرج، فهي لا تريد أن تفرِّط بزعامتها وهيمنتها وقوّتها المتمثّلة في التجارة، ولا تريد أيضاً أن تنصاع للأمر الواقع الجديد الذي بات المسلمون يشكلونه، ولا أن تعترف بهم، فيما ترى أن خيار المجابهة لـم تكن ظروفه الموضوعية قد نضجت بعد، ولا تستطيع كذلك السكوت على تحرشات المسلمين، لأن ذلك سيزيد الوضع سوءاً، باعتبار أنَّه يطال المقوم المعيشي الأساسي لدى قريش، ولذلك رأت أن تأخذ بخيار المواجهة الذي بدأت أسهمه تتصاعد بقوة، سيما في ظلّ إصرار الرسول (ص) على ملاحقة قريش سياسياً واقتصادياً.
نستنتج مما تقدّم، أنَّ الرسول (ص) قد استطاع بسراياه وغزواته المتعددة أن يحقّق الإنجازات التالية:
لقد أفاد المسلمون من حركة السرايا وخبروا المواقع المحيطة بالمدينة والمؤدية إلى مكة، خاصةً طرق التجارة الحيوية بين مكة والشام، كما أثبتوا أنَّ لديهم إمكانية القتال والدفاع عن أنفسهم وصدّ أيّ عدوان يتعرضون له من قبل قريش والقبائل المشركة المتحالفة معها، والقوى المعادية كاليهود والمنافقين، ما أدى بالمسلمين إلى توسيع مساحة تحرّكهم، وتحالفوا مع بعض القبائل المجاورة، وعقدوا بعض الموادعات والمهادنات مع أخرى، ما قلّص من نفوذ قريش وهيمنتها في الحجاز، وفتح الطريق أمام الدولة الناشئة لتبرز قوّتها، ومهد لها لكي تثبت حضوراً فاعلاً أرساه المسلمون في مراحل لاحقة.
أظهرت التطورات تفاني المسلمين في سبيل عقيدتهم وإخلاصهم لقيادتهم وكتمانهم لأسرارها، ما حرم العدو من إمكانية الحصول على أية معلومات قد تساعده على تفادي أي مفاجأة قد تحدث له، والتي ربَّما تكون العامل الأساسي في تحقيق النصر أو إلحاق الهزيمة بها، كما أثبت الرسول (ص) كفاءة قيادية عالية في تصديه لقريش من خلال الطريقة التي تعامل بها مع قريش، وضربه للمواقع الحيوية لديها، وهي التجارة، وهذا ما أثبتته الوقائع والأحداث اللاحقة.